فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.اللغة:

{إسرائيل} اسم أعجمي ومعناه: عبد الله، وهو اسم يعقوب عليه السلام، والد يوسف الصديق، وإليه ينتسب اليهود، وقد صرح به في آل عمران {إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} الآية.
{أوفوا} الوفاء: الإتيان بالشيء على التمام والكمال، يقال أوفى ووفى أي أداه وافيا تاما.
{تلبسوا} اللبس: الخلط، تقول العرب: لبست الشيء بالشيء خلطته، والتبس به اختلط، قال تعالى: {وللبسنا عليهم ما يلبسون} وفي المصباح: لبس الثوب من باب تعب لبسا بضم اللام، ولبست عليه الأمر لبسا من باب ضرب خلطته، والتبس الأمر: أشكل.
{الزكاة} مشتقة من زكا الزرع يزكو أي نما، لأن إخراجها يجلب البركة، أو هي من الزكاة أي الطهارة لأنها تطهر المال قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} الآية. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{إسرائيل} بغير همزة حيث كان: يزيد وحمزة في الوقف {نعمتي} وكذلك ما بعدها ساكنة الياء: أبو زيد عن المفضل {فارهبوني} {فاتقوني} بالياء في الحالين: يعقوب، وكذلك كل ياء محذوفة في الخط عند رأس الآية. وروى مسبح بن حاتم وابن دريد عن سهل وعباس بالياء في الوصل.
{أول كافر به} ممالة: قتيبة وأحمد بن فرج.

.الوقوف:

{فارهبون} o ربع الجزء.
{كافر به} ص لاتفاق الجملتين وعلى {قليلًا} أجوز لاختلاف النظم بتقديم المفعول.
{فاتقون} o {تعلمون} o {الراكعين} o {الكتاب} ط {تعقلون} o {الصلاة} ط {خاشعين} لا لأن {الذين} صفتهم: {راجعون}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال أبو السعود:

{يا بَنِى إسراءيل} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى طائفة خاصةٍ من الكَفَرة المعاصِرين للنبي صلى الله عليه وسلم لتذكيرهم بفنون النعم الفائضة عليهم بعد توجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرِه بتذكير كلهم بالنعمة العامة لبني آدم قاطبة بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} الخ {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة} الخ لأن المعنى كما أشير إليه بلّغهم كلامي واذكر لهم إذ جعلنا أباهم خليفةً في الأرض ومسجودًا للملائكة عليهم السلام وشرفناه بتعليم الأسماءِ وقبِلْنا توبتَه، والابنُ من البِناء لأنه مَبْنَى أبيه ولذلك ينسب المصنوع إلى صانعه، فيقال: أبو الحرب وبنتُ فكرٍ، وإسرائيلُ لقبُ يعقوبَ عليه السلام ومعناه بالعبرية صفوةُ الله، وقيل: عبد اللَّه، وقرئ إسرائِلَ بحذف الياء وإسرالَ بحذفهما وإسرايل بقلب الهمزة ياء، وإسراءَلَ بهمزة مفتوحة، وإسرئِلَ بهمزة مكسورة بين الراء واللام، وتخصيصُ هذه الطائفة بالذكر والتذكير لما أنهم أوفرُ الناس نعمةً وأكثرهم كفرًا بها {اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} بالتفكر فيها والقيام بشكرها، وفيه إشعار بأنهم قد نسُوها بالكلية، ولم يُخطروها بالبال لا أنهم أهملوا شكرها فقط، وإضافةُ النعمة إلى ضمير الجلالة لتشريفها وإيجابِ تخصيصِ شكرها به تعالى، وتقييد النعمة بهم لما أن الإنسان مجبولٌ على حب النعمة، فإذا نظرَ إلى ما فاض عليه من النعم حملَه ذلك على الرضى والشُكر، قيل: أريد بها ما أنعم به على آبائهم من النعم التي سيجئ تفصيلُها وعليهم من فنون النعم التي أجلُّها إدراكُ عصر النبي عليه السلام، وقرئ: {اذَّكِروا} من الافتعال ونعمتيْ بإسكان الياء وإسقاطها في الدرْج وهو مذهبُ من لا يحرك الياءَ المكسورَ ما قبلها. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أقام دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أولًا ثم عقبها بذكر الإنعامات العامة لكل البشر عقبها بذكر الإنعامات الخاصة على أسلاف اليهود كسرًا لعنادهم ولجاجهم بتذكير النعم السالفة واستمالة لقلوبهم بسببها وتنبيهًا على ما يدل على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث كونها إخبارًا عن الغيب.
واعلم أنه سبحانه ذكرهم تلك النعم أولًا على سبيل الإجمال فقال: {يا بنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 4] وفرع على تذكيرها الأمر بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: {وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ} [البقرة: 41] ثم عقبها بذكر الأمور التي تمنعهم عن الإيمان به، ثم ذكرهم تلك النعم على سبيل الإجمال ثانيًا بقوله مرة أخرى: {يا بنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} تنبيهًا على شدة غفلتهم، ثم أردف هذا التذكير بالترغيب البالغ بقوله: {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47] مقرونًا بالترهيب البالغ بقوله: {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] إلى آخر الآية.
ثم شرع بعد ذلك في تعديد تلك النعم على سبيل التفصيل ومن تأمل وأنصف علم أن هذا هو النهاية في حسن الترتيب لمن يريد الدعوة وتحصيل الاعتقاد في قلب المستمع. اهـ.
قال الفخر:
اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ويقولون إن معنى إسرائيل عبد الله لأن إسرا في لغتهم هو العبد وإيل هو الله وكذلك جبريل وهو عبد الله وميكائيل عبد الله.
قال القفال: قيل إن إسرا بالعبرانية في معنى إنسان فكأنه قيل رجل الله فقوله: {يا بَنِى إسراءيل} خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب عليه السلام في أيام محمد صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال القرطبي:

وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
قال أبو الفرج الجَوْزِيّ: وليس في الأنبياء من له اسمان غيره، إلا نبينّا محمد صلى الله عليه وسلم فإن له أسماء كثيرة.
ذكره في كتاب فهوم الآثار له.
قلت: وقد قيل في المسيح إنه اسم عَلَم لعيسى عليه السلام غير مشتق، وقد سمّاه الله رُوحًا وكَلِمة، وكانوا يسمّونه أبِيل الأَبِيلين؛ ذكره الجوهري في الصحاح.
وذكر البيهقي في دلائل النبوّة عن الخليل بن أحمد: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين، محمد وأحمد نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وعيسى والمسيح، وإسرائيل ويعقوب، ويونس وذو النون، وإلياس وذو الكفل صلى الله عليه وسلم.
قلت: ذكرنا أن لعيسى أربعة أسماء، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فله أسماء كثيرة، بيانها في مواضعها. اهـ.

.قال السمرقندي:

وقال بعضهم: إنما سمي إسرائيل لأنه أسره ملك يقال له إيل، وذلك أنه كان في سفر مع أولاده، وكان يسير خلف القافلة، وكان له قوة فدخل في نفسه شيء من العجب، فابتلاه الله تعالى، أن جاءه ملك على هيئة اللص وأراد أن يضرب على القافلة، فأراد يعقوب أن يضربه على الأرض فلم يقدر على ذلك، فكانا في تلك المنازعة إلى طلوع الفجر، ثم إن الملك أخذ بعرق يعقوب أي عرق من عروقه فمده فسقط في ذلك الموضع ثلاثة أيام.
وقال بعضهم: لأنه أسره جني يقال له إيل وروي عن السدي: أنه وقعت بينه وبين أخيه عيصوا عداوة فحلف عيصوا أن يقتله، فكان يعقوب يختفي بالنهار، ويخرج بالليل فسمي إسرائيل لسيره بالليل.
وأصله من إسراء الليل بدليل قوله عز وجل: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنا إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [الإسراء: 1]؛ والله أعلم بالصواب. اهـ.

.قال الثعلبي:

وقيل: سمّي بذلك لأنّ يعقوب وعيصا كانا توأمين واقتتلا في بطن أُمهما، فأراد يعقوب أن يخرج فمنعه عيص وقال: والله لئن خرجت قبلي لأعترضنّ في بطن أمّي، فلأقتلنّها، فتأخّر يعقوب وخرج عيص وأخذ يعقوب يعقب عيص فخرج عيص قبل يعقوب.
وسمّي عيص لما عصى فخرج قبل يعقوب، وكان عيص أحبّهما إلى أبيه وكان يعقوب أحبّهما إلى أُمِّه، وكان عيص ويعقوب أبناء إسحاق وعميَ، قال لعيص: يا بنّي أطعمني لحم صيد واقترب مني أُدعُ لك بدعاء دعا لي به أبي، وكان عيص رجلا أشعر وكان يعقوب رجلًا أمرد، فخرج عيص بطلب الصيد، فقالت أُمّه ليعقوب: يا بنّي اذهب إلى الغنم فاذبح منه شاةً ثمّ اشوه والبس جلدها وقدمها إلى أبيك فقل له: إنّك عيص، ففعل ذلك يعقوب، فلمّا جاء قال: يا أبتاه كل، قال: من أنت، قال: ابنك عيص قال: خمسه فقال: المس مسّ عيص والريح ريحة يعقوب، قالت أُمه: هو ابنك، فادع له، قال: قدم طعامك فقدّمه فأكل منه، ثم قال: أُدن مني، فدنا منه، فدعا له أن يجعل في ذريته الأنبياء والملوك. وقام يعقوب وجاء عيص فقال: قد جئتك بالصيد الذي أمرتني به. فقال: يا بني قد سبقك أخوك يعقوب، فغضب عيص وقال: والله لأقتلنه، قال: يا بني قد بقيت لك دعوة، فهلم أدع لك بها، فدعا له فقال: تكون ذريتك عددًا كثيرًا كالتراب ولا يملكهم أحد غيرهم.... اهـ.

.قال الفخر:

حد النعمة أنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومنهم من يقول: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، قالوا: وإنما زدنا هذا لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لم يستحق بها الشكر والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورًا لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذم والعقاب، فأي امتناع في اجتماعهما؟ ألا ترى أن الفاسق يستحق الشكر بإنعامه والذم بمعصيته فلم لا يجوز هاهنا أن يكون الأمر كذلك؟ ولنرجع إلى تفيسر الحد فنقول: أما قولنا: المنفعة فلأن المضرة المحضة لا يجوز أن تكون نعمة، وقولنا: المفعولة على جهة الإحسان فلأنه لو كان نفعًا وقصد الفاعل نفع نفسه لا نفع المفعول به كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها أو أراد استدراجه إلى ضرر واختداعه كمن أطعم خبيصًا مسمومًا ليهلكه لم يكن ذلك نعمة، فأما إذا كانت المنفعة مفعولة على قصد الإحسان إلى الغير كانت نعمة.
إذا عرفت حد النعمة فلنفرع عليه فروعًا:
الفرع الأول: اعلم أن كل ما يصل إلينا آناء الليل والنهار في الدنيا والآخرة من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى: {وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53]، ثم إن النعمة على ثلاثة أوجه:
أحدها: نعمة تفرد الله بها نحو أن خلق ورزق.
وثانيها: نعمة وصلت إلينا من جهة غيره بأن خلقها وخلق المنعم ومكنه من الإنعام وخلق فيه قدرة الإنعام وداعيته ووفقه عليه وهداه إليه، فهذه النعمة في الحقيقة أيضًا من الله تعالى، إلا أنه تعالى لما أجراها على يد عبده كان ذلك العبد مشكورًا، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى، ولهذا قال: {أَنِ اشكر لِى ولوالديك} [لقمان: 14] فبدأ بنفسه، وقال عليه السلام: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس».
وثالثها: نعمة وصلت إلينا من الله تعالى بواسطة طاعاتنا وهي أيضًا من الله تعالى لأنه لولا أنه سبحانه وتعالى وفقنا على الطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار وإلا لما وصلنا إلى شيء منها، فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم من الله تعالى على ما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله}.
الفرع الثاني: أن نعم الله تعالى على عبيده مما لا يمكن عدها وحصرها على ما قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 18] وإنما لا يمكن ذلك لأن كل ما أودع فينا من المنافع واللذات التي ننتفع بها والجوارح والأعضاء التي نستعملها في جلب المنافع ودفع المضار وما خلق الله تعالى في العالم مما يلتذ به ويستدل على وجود الصانع وما وجد في العالم مما يحصل الانزجار برؤيته عن المعاصي مما لا يحصى عدده وكل ذلك منافع لأن المنفعة هي اللذة أو ما يكون وسيلة إلى اللذة وجميع ما خلق الله تعالى كذلك لأن كل ما يلتذ به نعمة وكل ما يلتذ به وهو وسيلة إلى دفع الضرر فهو كذلك والذي لا يكون جالبًا للنفع الحاضر ولا دافعًا للضرر الحاضر فهو صالح لأن يستدل به على الصانع الحكيم فيقع ذلك وسيلة إلى معرفته وطاعته وهما وسيلتان إلى اللذات الأبدية فثبت أن جميع مخلوقاته سبحانه نعم على العبيد، ولما كانت العقول قاصرة عن تعديد ما في أقل الأشياء من المنافع والحكم فكيف يمكن الإحاطة بكل ما في العالم من المنافع والحكم، فصح بهذا معنى قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} فإن قيل: فإذا كانت النعم غير متناهية وما لا يتناهى لا يحصل العلم به في حق العبد فكيف أمر بتذكرها في قوله: {اذكروا نِعْمَتِىَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} والجواب أنها غير متناهية بحسب الأنواع والأشخاص إلا أنها متناهية بحسب الأجناس، وذلك يكفي في التذكير الذي يفيد العلم بوجود الصانع الحكيم.
واعلم أنه لما ثبت أن استحقاق الحمد والثناء والطاعة لا يتحقق إلا على إيصال النعمة ثبت أنه سبحانه وتعالى هو المستحق لحمد الحامدين.
ولهذا قال في ذم الأصنام: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: 72، 73] وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ} [الفرقان: 55] وقال: {أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يهدى} [يونس: 35].
الفرع الثالث: أن أول ما أنعم الله به على عبيده هو أن خلقهم أحياء والدليل عليه قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا} [البقرة: 28، 29] إلى آخر الآية، وهذا صريح في أن أصل النعم الحياة لأنه تعالى أول ما ذكر من النعم فإنما ذكر الحياة ثم إنه تعالى ذكر عقيبها سائر النعم وأنه تعالى إنما ذكر المؤمنين ليبين أن المقصود من حياة الدنيا حياة الآخرة والثواب.
وبين أن جميع ما خلق قسمان منتفع ومنتفع به، هذا قول المعتزلة.
وقال أهل السنة: إنه سبحانه كما خلق المنافع خلق المضار ولا اعتراض لأحد عليه، ولهذا سمى نفسه النافع الضار ولا يسأل عما يفعل.
الفرع الرابع: قالت المعتزلة: إن الله تعالى قد أنعم على المكلفين بنعمة الدنيا ونعمة الدين، وسوى بين الجميع في النعم الدينية والدنيوية، أما في النعم الدينية فلأن كل ما كان في المقدور من الألطاف فقد فعل بهم والذي لم يفعله فغير داخل في القدرة إذ لو قدر على لطف لم يفعله بالمكلف لبقي عذر المكلف، وأما في الدنيا فعلى قول البغداديين خاصة لأن عندهم يجب رعاية الأصلح في الدنيا وعند البصريين لا يجب.
وقال أهل السنة: إن الله تعالى خلق الكافر للنار ولعذاب الآخرة ثم اختلفوا في أنه هل لله نعمة على الكافر في الدنيا؟ فمنهم من قال: هذه النعم القليلة في الدنيا لما كانت مؤدية إلى الضرر الدائم في الآخرة لم يكن ذلك نعمة على الكافر في الدنيا، فإن من جعل السم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل من أكل الحلوى نعمة لما كان ذلك سبيلًا إلى الضرر العظيم، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌلأنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا} [آل عمران: 178] ومنهم من قال: إنه تعالى وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدين فلقد أنعم عليه بنعمة الدنيا وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله، وهذا القول أصوب ويدل عليه وجوه:
أحدها: قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشًا والسماء بِنَاء} [البقرة: 21، 22] فنبه على أنه يجب على الكل طاعته لمكان هذه النعم وهي نعمة الخلق والرزق.
ثانيها: قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا} [البقرة: 28] إلى آخره وذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم ولو لم يصل إليهم من الله تعالى شيء من النعم لما صح ذلك.
وثالثها: قوله: {يا بنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِى التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47] وهذا نص صريح في أن الله تعالى أنعم على الكافر إذ المخاطب بذلك هم أهل الكتاب وكانوا من الكفار وكذا قوله: {يا بني إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ} إلى قوله: {وَإِذْ أنجيناكم} وقوله: {وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 53].
وكل ذلك عد للنعم على العبيد.
ورابعها: قوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم في الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السماء عَلَيْهِم مَّدْرَارًا} [الأنعام: 6].
وخامسها: قوله: {قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظلمات البر والبحر تَدْعُونَهُ} [الأنعام: 63] إلى قوله: {ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ}.
وسادسها: قوله: {وَلَقَدْ مكناكم في الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10] وقال في قصة إبليس: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} [الأعراف: 17]، ولو لم يكن عليهم من الله نعمة لما كان لهذا القول فائدة.
وسابعها: قوله: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ في الأرض} [الأعراف: 84] الآية، وقال حاكيًا عن شعيب: {واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] وقال حاكيًا عن موسى: {قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين} [الأعراف: 140].
وثامنها: قوله: {ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ} [الأنفال: 53] وهذا صريح.
وتاسعها: قوله: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق} [يونس: 5].
وعاشرها: قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ}.
الحادي عشر: قوله: {هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها} إلى قوله: {فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ في الأرض بِغَيْرِ الحق} [يونس: 22 23].
الثاني عشر: قوله: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاسًا} [الفرقان: 47].
وقوله: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِرًا} [يونس: 67].
الثالث عشر: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار} [إبراهيم: 28 29].
الرابع عشر: {الله الذي خَلَقَ السموات والأرض وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِىَ في البحر بِأَمْرِهِ} [إبراهيم: 32].
الخامس عشر: قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] وهذا صريح في إثبات النعمة في حق الكفار.
واعلم أن الخلاف في هذه المسألة راجع إلى العبارة.
وذلك لأنه لا نزاع في أن هذه الأشياء أعني الحياة والعقل والسمع والبصر وأنواع الرزق والمنافع من الله تعالى إنما الخلاف في أن أمثال هذه المنافع إذا حصل عقيبها تلك المضار الأبدية هل يطلق في العرف عليها اسم النعمة أم لا؟ ومعلوم أن ذلك نزاع في مجرد عبارة، وأما الذي يدل على أن ما لا يلتذ به المكلف فهو تعالى إنما خلقه لينتفع به في الاستدلال على الصانع وعلى لطفه وإحسانه فأمور.
أحدها: قوله تعالى في سورة أتى أمر الله: {يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} فيبين تعالى أنه إنما بعث الرسل مبشرين ومنذرين ولأجل الدعوة إلى وحدانيته والإيمان بتوحيده وعدله، ثم إنه تعالى قال: {خَلَقَ السموات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} [النحل: 3 4] فبين أن حدوث العبد مع ما فيه من الكفر من أعظم الدلائل على وجود الصانع وهو انقلابه من حال إلى حال، من كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن ينتهي من أخس أحواله وهو كونه نطفة إلى أشرف أحواله وهو كونه خصيمًا مبينًا، ثم ذكر بعد ذلك وجوه إنعامه فقال: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء ومنافع وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] إلى قوله: {هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَاء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُون} [النحل: 10] بين بذلك الرد على الدهرية وأصحاب الطبائع لأنه تعالى بين أن الماء واحد والتراب واحد ومع ذلك اختلفت الألوان والطعوم والروائح، ثم قال: {وَسَخَّر لَكُمُ الليل والنهار} [النحل: 12] بين به الرد على المنجمين وأصحاب الأفلاك حيث استدل بحركاتها وبكونها مسخرة على طريقة واحدة على حدوثها فأثبت سبحانه وتعالى بهذه الآيات أن كل ما في العالم مخلوق لأجل المكلفين لأن كل ما في العالم مما يغاير ذات المكلف ليس يخلو من أن يلتذ به المكلف ويستروح إليه فيحصل له به سرور أو يتحمل عنه كلفة أو يحصل له به اعتبار نحو الأجسام المؤذية كالحيات والعقارب فيتذكر بالنظر إليها أنواع العقاب في الآخرة فيحترز منها ويستدل بها على المنعم الأعظم، فثبت أنه لا يخرج شيء من مخلوقاته عن هذه المنافع، ثم إنه سبحانه وتعالى نبه على عظم إنعامه بهذه الأشياء في آخر هذه الآيات فقال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 18].
وثانيها: قوله تعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} [النحل: 112] فنبه بذلك على أن كون النعمة واصلة إليهم يوجب أن يكون كفرانها سببًا للتبديل، وثالثها: قوله في قصة قارون: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} [القصص: 77] وقال: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السموات وَمَا فِي الأرض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] وقال: {أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أأنتم تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون} [الواقعة: 58] وقال: {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} [الرحمن: 16] على سبيل التكرير وكل ما في هذه السورة فهو من النعم، إما في الدين أو في الدنيا فهذا ما يتعلق بهذا الباب. اهـ.